مكث رسـول الله صلى الله عليه وسلم عند مرضعته حليمة السـعدية في بادية بني سـعد في السـنوات الخمس الأولى من عمره،
ليجـد فـي هـواء الصحـراء وخشـونة عيـش الباديـة مـا يسـرع بـه إلـى النمـو ويزيـد فـي وسـامة خلقـه وحسـن تكوينـه…
وفــي هــذه الفتــرة قبــل أن يبلــغ الثالثــة مــن عمــره حدثــت لــه حادثــه شــق الصــدر،
فعـن أنـس بـن مالـك -رضـي الله عنـه- “أن الرسـول الله صلى الله عليه وسلم أتـاه جبريـل -عليـه السـام- وهـو يلعـب مـع الغلمـان فأخـذه فصرعــه فشــق عــن قلبــه، فاســتخرج القلــب، فاســتخرج منــه علقـة، فقـال: هـذا حـظ الشـيطان منـك، ثـم غسـله فـي طسـت مــن ذهــب بمــاء زمــزم، ثــم لأََمــه ثــم أعــاده فــي مكانــه…”
صحيــح مســلم. اســتخرج جبريــل -عليــه الســلام- مــع هــذه العلقــة كل حقــد
وضغينــة وكراهيــة مــن قلبــه صلى الله عليه وسلم فالنبــي لا يكــره ولا يحقــد ولا يحمــل فــي قلبــه ضغينــة تجــاه
أحــد لكنـه بشــر يتأثـر ويحـزن ويفــرح ويتذكـر…
فـي معركـة بـدر وبعـد أن قتـل مـن قتـل مـن المشـركين قـرر المشـركين الأخـذ بالثـأر لمـن قتـل منهـم وتجهـزوا لمعركـة أحـد،
فحمـزة -رضـي الله عنـه- قتـل الكثيـر مـن المشـركين ومـن بينهـم طعيمـة بـن عـدي بـن الخيـار،
ففـي الوقـت الـذي يسـتعد فيـه المشـركين للمعركـة قـال جبيـر بـن مطعـم لوحشـي -رضـي الله عنـه- وهـو عبـٌد عنـده وقـد امتــاز بتصويبــه فــي رمــي الحربــة: “إن قتلــت حمــزة بعمــي
فأنـت حـر!”
فلمــا خــرج النــاس إلــى القتــال تجهــز وحشــي -رضــي الله عنــه-
فتحريــره مقــرون بقتــل أســد الإســلام حمــزة -رضــيِ الله عنـه-الـذي قـال فيـه النبـي مـن حبـه لـه”خيـُر إْخَوِتـيَ علـٌّي، وخيــُر أعمامــي حمــزةُ” فهــو أقــرب الأعمــام ســناً للنبــي صلى الله عليه وسلم
فلـم يفكـر وحشـي كثيـراً بهـذا العـرض المغـري فهـو يسـعى إلـى تحريـر نفسـه مـن العبوديـة منـذ زمـن ولـم يكـن يملـك مـا يحـرر بـه نفسـه، ذهـب مـع القـوم إلـى أرض المعركـة، ذهـب وهــو عــازم علــى ألا يعــود إلا بــدم حمــزة وتخليــص نفســه
مـن العبوديـة..
وبالفعـل حصـل علـى مـا يطمـح إليـه، قـام بتصويـب الحربـة علـى حمـزة -رضـي الله عنـه- وأرداه قتيـاً.
فحــزن النبــي -عليــه السلام- حزنــاً شــديداً لوفــاة حمــزة، وبعـد فتـح مكـة فـر وحشـي إلـى الطائـف خوفـاً مـن لقـاء النبـي فهـو قاتـل عمـه حمـزة،
وبقـي هنـاك حتـى خـرج وفـٌد مـن الطائـف للقـاء النبـي ليعلنـوا إســلامهم فهنــا ضاقــت الأرض بمــا رحبــت عليــه، فمــا زال فـي همـه حتى قابلـه رجـاً وهـو علـى هـذه الحالـة فقـال لـه: ويحــك إنــه والله مــا يقتــل أحــداً مــن النــاس دخــل فــي دينــه! -يقصــد النبــي- فلمــا ســمع ذلــك ذهــب إلــى المدينــة ليعلــن إسـامه ووقـف بيـن يـدي رسـول الله مـردداً الشـهادتين معلنـاً
إسـامه فقبـل منـه النبـي ذلـك، ثـم قـال لـه: أأنـت وحشـي؟
قال: نعم
قال: أنت قتلت حمزة؟
قال: قد كان من الأمر ما بلغك..
قال: فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟
ما هذا الطلب الغريب!
لماذا يطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الطلب أن لا يرى وجهه؟!
رغم أنه قبل إسلامه وحسن اسلامه
لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر وكان شديد الحب لعمه حمزة..
ورؤيته لوحشـي سـتعيد إلى ذاكرته كل المواقف التي كانت بينـه وبيـن عمـه حمـزة وقـد ينفطـر فـؤاده حيـن يتذكرهـا،
ويتجدد حزنه عليه كلما رأى قاتله،
هــذه هــي طبيعــة النفــس البشــرية تحــزن وتفــرح تتألــم وتتذكــر…
لمــاذا نفــرض علــى أنفســنا تقبــل أشــخاص وجودهــم يجــدد فــي دواخلنــا الحــزن والألــم؟
أن أسـامح شـخص أسـاء لي، لا يعني عوده المودة والمحبة والألفة…
قد أسامحك لكن لا أتقبلك…
أسامحك لكن لا أستطيع النظر إليك، أسامحك لكن لا مجال لترميم العاقة من جديد،
أســامحك يعنــي أنــت فــي حــل منــي، لا وقــوف بينــي وبينــك بيــن يــد الله، أما العفو فقد عفونا أما الود فا يعود..